فصل: تفسير الآية رقم (61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (61):

{جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ وَعَدَ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُطِيعِينَ جَنَّاتِ عَدْنٍ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ وَعْدَهُ مَأْتِيٌّ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ يَأْتُونَهُ وَيَنَالُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ؛ لِأَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَشَارَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} الْآيَةَ [30/ 6]، وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [13/ 31]، وَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} الْآيَةَ [3/ 193- 194]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [17/ 107- 108]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [73/ 17- 18]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} [25/ 15- 16]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلِهِ: {مَأْتِيًّا} اسْمُ مَفْعُولِ أَتَاهُ: إِذَا جَاءَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ لَابُدَّ أَنْ يَأْتُونَ مَا وُعِدُوا بِهِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ مَأْتِيًّا، صِيغَةُ مَفْعُولٍ أُرِيدَ بِهَا الْفَاعِلُ، أَيْ: كَانَ وَعْدُهُ آتِيًا، إِذْ لَا دَاعِيَ لِهَذَا مَعَ وُضُوحِ ظَاهِرِ الْآيَةِ.
تَنْبِيهٌ:
مَثَّلَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْبَلَاغَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدَلِ، وَهُوَ بَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، قَالُوا: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [19/ 61]، بَدَلٌ مِنَ الْجَنَّةِ فِي قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [19/ 60]، بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ.
قَالُوا: وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَدَلِ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ قَوْلُهُ:
رَحِمَ اللَّهُ أَعْظُمًا دَفَنُوهَا ** بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ

فَطَلْحَةُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ أَعْظُمًا بَدَلُ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، وَعَلَيْهِ فَأَقْسَامُ الْبَدَلِ سِتَّةٌ: بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، وَبَدَلُ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ، وَبَدَلُ الْكُلِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَبَدَلُ الِاشْتِمَالِ، وَبَدَلُ الْبَدَاءِ، وَبَدَلُ الْغَلَطِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ كَوْنُ الْبَدَلِ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ: فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لِلْجِنْسِ، وَإِذَا كَانَ لِلْجِنْسِ جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الْجَنَّاتِ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ، بَدَلًا مِنَ الْجَنَّةَ بَدَلَ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ الْجَمْعُ كَمَا تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وَالْأَعْظُمُ فِي الْبَيْتِ كِنَايَةٌ عَنِ الشَّخْصِ، فَطَلْحَةُ بَدَلٌ مِنْهُ، بَدَلُ الشَّيْءِ مِنَ الشَّيْءِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدْفِنُوا الْأَعْظُمَ وَحْدَهَا، بَلْ دَفَنُوا الشَّخْصَ الْمَذْكُورَ جَمِيعَهُ، أَعْظُمَهُ وَغَيْرَهَا مِنْ بَدَنِهِ، وَعَبَّرَ هُوَ عَنْهُ بِالْأَعْظُمِ.

.تفسير الآية رقم (62):

{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَدْخَلَهُمْ رَبُّهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا} [19/ 62]، أَيْ: فِي الْجَنَّاتِ الْمَذْكُورَةِ لَغْوًا، أَيْ: كَلَامًا تَافِهًا سَاقِطًا كَمَا يُسْمَعُ فِي الدُّنْيَا، وَاللَّغْوُ: هُوَ فُضُولُ الْكَلَامِ، وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ فُحْشُ الْكَلَامِ وَبَاطِلُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ، وَقِيلَ الْعَجَّاجِ:
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ** عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ

كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا سَلَامًا، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ: لَكِنْ يَسْمَعُونَ فِيهَا سَلَامًا، لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} الْآيَةَ [14/ 23]، وَقَوْلُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} الْآيَةَ [13/ 23- 24]، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا جَاءَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ فِي الْوَاقِعَةِ: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} [56/ 25- 26]، وَقَدْ جَاءَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} الْآيَةَ [4/ 157]: وَقَوْلِهِ: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [92/ 19- 20]، وَقَوْلِهِ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [44/ 56]، وَكَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} الْآيَةَ [4/ 29]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَكُلُّ الِاسْتِثْنَاءَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مُنْقَطِعَةٌ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ قَوْلُ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا ** عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ

إِلَّا الْأَوَارِيَّ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا ** وَالنُّؤْيَ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ

فَالْأَوَارِيُّ الَّتِي هِيَ مَرَابِطُ الْخَيْلِ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْأَحَدِ.
وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
وَبِنْتِ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ ** لَهَا خَاطِبٌ إِلَّا السِّنَانَ وَعَامِلَهْ

وَقَوْلُ جِرَانِ الْعَوْدِ:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ** إِلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ

فَالسِّنَانُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْخَاطِبِ وَالْيَعَافِيرُ وَالْعِيسُ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ جِنْسِ الْأَنِيسِ.
وَقَوْلُ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ:
أُجَاهِدُ إِذْ كَانَ الْجِهَادُ غَنِيمَةً ** وَلَلَّهُ بِالْعَبْدِ الْمُجَاهِدِ أَعْلَمْ

عَشِيَّةً لَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ** وَلَا النَّبْلُ إِلَّا الْمَشْرِقِيَّ الْمُصَمِّمْ

وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا تَعَلْمُ صِحَّةَ وُقُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ كَمَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ الْقَائِلِينَ: بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِخْرَاجُ مَا دَخَلَ فِي اللَّفْظِ، وَغَيْرُ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي اللَّفْظِ أَصْلًا حَتَّى يَخْرُجَ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ يَحْصُلُ بِأَمْرَيْنِ يَتَحَقَّقُ بِوُجُودِهِمَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُتَّصِلٌ، وَإِنِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَهُوَ مُنْقَطِعٌ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ، نَحْوُ: جَاءَ الْقَوْمُ إِلَّا حِمَارًا، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَقِيضَ الْإِثْبَاتِ النَّفْيُ كَالْعَكْسِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتًا، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيًا، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ عَلَى الْمُسْتَثْنَى لَيْسَ نَقِيضَ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ فَهُوَ مُنْقَطِعٌ وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [44/ 56]، اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَلَى التَّحْقِيقِ، مَعَ أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [4/ 29]، وَإِنَّمَا كَانَ مُنْقَطِعًا فِي الْآيَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بِنَقِيضِ الْحُكْمِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَنَقِيضُ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا، هُوَ: يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ، وَهَذَا النَّقِيضُ الَّذِي هُوَ ذَوْقُ الْمَوْتِ فِي الْآخِرَةِ لَمْ يُحْكَمْ بِهِ عَلَى الْمُسْتَثْنَى بَلْ حُكِمَ بِالذَّوْقِ فِي الدُّنْيَا، وَنَقِيضُ لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ كُلُوهَا بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِهِ فِي الْمُسْتَثْنَى.
فَتَحَصَّلَ أَنَّ انْقِطَاعَ الِاسْتِثْنَاءِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا بِالْحُكْمِ عَلَى غَيْرِ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا ثَوْبًا، الثَّانِي: بِالْحُكْمِ بِغَيْرِ النَّقِيضِ، نَحْوُ: رَأَيْتُ أَخَوَيْكَ إِلَّا زَيْدًا لَمْ يُسَافِرْ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي اعْلَمْ أَنَّهُ يُبْنَى عَلَى الْخِلَافِ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ بَعْضُ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ، فَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ لِآخَرَ فَقَالَ لَهُ: عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا، فَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَكُونُ قَوْلُهُ إِلَّا ثَوْبًا لَغْوًا وَتَلْزَمُهُ الْأَلْفُ كَامِلَةً، وَعَلَى الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ لَا يُلْغَى قَوْلُهُ إِلَّا ثَوْبًا وَتَسْقُطُ قِيمَةُ الثَّوْبِ مِنَ الْأَلْفِ، وَالَّذِينَ قَالُوا تَسْقُطُ قِيمَتُهُ اخْتَلَفُوا فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَجَازٌ، وَأَنَّهُ أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ قِيمَتَهُ، وَالثَّانِي: أَنَّ فِيهِ إِضْمَارًا، أَيْ: حَذْفَ مُضَافٍ، يَعْنِي: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، فَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْمَجَازُ عَلَى الْإِضْمَارِ قَالَ إِلَّا ثَوْبًا مَجَازٌ، أَطْلَقَ الثَّوْبَ وَأَرَادَ الْقِيمَةَ، كَإِطْلَاقِ الدَّمِ عَلَى الدِّيَةِ، وَمَنْ قَالَ يُقَدَّمُ الْإِضْمَارُ عَلَى الْمَجَازِ قَالَ إِلَّا ثَوْبًا، أَيْ: إِلَّا قِيمَةَ ثَوْبٍ، وَاعْتَمَدَ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ تَقْدِيمَ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ فِي قَوْلِهِ:
وَبَعْدَ تَخْصِيصٍ مَجَازٌ يَلِي ** الْإِضْمَارُ فَالنَّقْلُ عَلَى الْمُعَوَّلِ

وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَنَّ الْمُقَدَّمَ عِنْدَهُمُ التَّخْصِيصُ، ثُمَّ الْمَجَازُ، ثُمَّ الْإِضْمَارُ، ثُمَّ النَّقْلُ، مِثَالُ تَقْدِيمِ التَّخْصِيصِ عَلَى الْمَجَازِ إِذَا احْتَمَلَ اللَّفْظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [9/ 5]، يَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ كَالذِّمِّيِّينَ وَالْمُعَاهِدِينَ أَخْرَجَهُمْ دَلِيلٌ مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ الْمُشْرِكِينَ، وَيَحْتَمِلُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، أَطْلَقَ فِيهِ الْكُلَّ وَأَرَادَ الْبَعْضَ، فَيُقَدَّمُ التَّخْصِيصُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّفْظَ يَبْقَى حَقِيقَةً فِي مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمُخَصِّصُ، وَالْحَقِيقَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَجَازِ.
الثَّانِي أَنَّ اللَّفْظَ يَبْقَى مُسْتَصْحَبًا فِي الْأَفْرَادِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى قَرِينَةٍ، وَمِثَالُ تَقْدِيمِ الْمَجَازِ عَلَى الْإِضْمَارِ عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، قَوْلُ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا: أَنْتَ أَبِي، يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، مِنْ إِطْلَاقِ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةِ اللَّازِمِ، أَيْ: أَنْتَ عَتِيقٌ؛ لِأَنَّ الْأُبُوَّةَ يَلْزَمُهَا الْعِتْقُ، وَيَحْتَمِلُ الْإِضْمَارَ، أَيْ: أَنْتَ مِثْلُ أَبِي فِي الشَّفَقَةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يُعْتَقُ، وَعَلَى الثَّانِي: لَا يُعْتَقُ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، وَمِثَالُ تَقْدِيمِ الْإِضْمَارِ عَلَى النَّقْلِ عِنْدَ احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [2/ 275]، يَحْتَمِلُ الْإِضْمَارَ، أَيْ: أَخْذُ الرِّبَا وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ مَثَلًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ حُذِفَ الدِّرْهَمُ الزَّائِدُ لَصَحَّ الْبَيْعُ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمِ، وَيَحْتَمِلُ نَقْلَ الرِّبَا إِلَى مَعْنَى الْعَقْدِ، فَيَمْتَنِعُ عَقْدُ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَلَوْ حُذِفَ الزَّائِدُ فَلَا بُدَّ مِنْ عَقْدٍ جَدِيدٍ مُطْلَقًا.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ: وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرُوهُمَا فِي: لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِينَارٍ إِلَّا ثَوْبًا، وَهُمَا الْإِضْمَارُ وَالنَّقْلُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إِلَى كَوْنِهِ مُتَّصِلًا؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الثَّوْبِ مِنْ جِنْسِ الْأَلْفِ الَّتِي أَقَرَّ بِهَا، سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْقِيمَةَ مُضْمَرَةٌ، أَوْ قُلْنَا إِنَّهَا مُعَبَّرٌ عَنْهَا بِلَفْظِ الثَّوْبِ.
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اعْلَمْ أَنَّ الْخِلَافَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ مَنَعُوهُ لَمْ يَمْنَعُوهُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالُوا: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْحَقِيقِيِّ؛ لِأَنَّ أَدَاةَ الِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ بِمَعْنَى لَكِنْ فَهُوَ إِلَى الِاسْتِدْرَاكِ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَبَعْضُ الْقَائِلِينَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ يَقُولُ: إِنَّ الثَّوْبَ فِي الْمِثَالِ الْمُتَقَدِّمِ لَغْوٌ، وَيُعَدُّ نَدَمًا مِنَ الْمُقِرِّ بِالْأَلْفِ، وَالنِّسْبَةُ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ وَالْمُنْقَطِعِ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهِ، قِيلَ إِنَّهَا نِسْبَةُ تَوَاطُؤٍ، وَقِيلَ: إِنَّهَا مِنْ قَبِيلِ الِاشْتِرَاكِ، وَإِلَى مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَالْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَّصِلِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ، بِقَوْلِهِ:
وَالْحُكْمُ بِالنَّقِيضِ لِلْحُكْمِ حَصَلْ ** لِمَا عَلَيْهِ الْحُكْمُ قَبْلُ مُتَّصِلْ

وَغَيْرُهُ مُنْقَطِعٌ وَرَجَّحَا ** جَوَازَهُ وَهُوَ مَجَازٌ أَوْضَحَا

فَلْتُنْمِ ثَوَابًا بَعْدَ أَلْفِ دِرْهَمِ ** لِلْحَذْفِ وَالْمَجَازِ أَوْ لِلنَّدَمِ

وَقِيلَ بِالْحَذْفِ لَدَى الْإِقْرَارِ ** وَالْعَقْدُ مَعْنَى الْوَاوِ فِيهِ جَارِ

بِشَرِكَةٍ وَبِالتَّوَاطِي قَالَ ** بَعْضٌ وَأَوْجَبَ فِيهِ الِاتِّصَالَا

وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [19/ 62]، مُنْقَطِعٌ، هُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الْمَدْحِ بِمَا يُشْبِهُ الذَّمَّ، كَقَوْلِ نَابِغَةَ ذُبْيَانَ:

وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ** بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:
فَمًا يَكُ فِيَّ مِنْ عَيْبٍ فَإِنِّي ** جَبَانُ الْكَلْبِ مَهْزُولُ الْفَصِيلِ

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} الْآيَةَ [7/ 126]، وَقَوْلِهِ: {وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [9/ 74]، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فِيهِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ ذِكْرِ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، مَعَ أَنَّ الْجَنَّةَ ضِيَاءٌ دَائِمٌ وَلَا لَيْلَ فِيهَا، وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ أَجْوِبَةٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ قَدْرُ ذَلِكَ مِنَ الزَّمَنِ، كَقَوْلِهِ: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [34/ 12]، أَيْ: قَدْرُ شَهْرٍ، وَرُوِيَ مَعْنَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ فِي زَمَنِهَا تَرَى أَنَّ مَنْ وَجَدَ غَدَاءً وَعَشَاءً فَذَلِكَ النَّاعِمُ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُرَغِّبَةً لَهُمْ وَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ قَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ، وَيَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ.
الْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ الدَّوَامِ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، وَالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً، وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا، يُرِيدُ الدَّيْمُومَةَ وَلَا يَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ.
الْجَوَابُ الرَّابِعُ: أَنْ تَكُونَ الْبُكْرَةُ هِيَ الْوَقْتَ الَّذِي قَبْلَ اشْتِغَالِهِمْ بِلَذَّاتِهِمْ، وَالْعَشِيُّ: هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ لَذَّاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّلُهَا فَتَرَاتُ انْتِقَالٍ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، وَهَذَا يَرْجِعُ مَعْنَاهُ إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ.
الْجَوَابُ الْخَامِسُ: هُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ مِنْ حَدِيثِ أَبَانٍ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ، قَالَا: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ فِي الْجَنَّةِ مِنْ لَيْلٍ؟ قَالَ: «وَمَا يُهَيِّجُكَ عَلَى هَذَا»؟ قَالَ: سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَقُلْتُ: اللَّيْلُ بَيْنَ الْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ هُنَاكَ لَيْلٌ، إِنَّمَا هُوَ ضَوْءٌ وَنُورٌ، يَرِدُ الْغُدُوُّ عَلَى الرَّوَاحِ وَالرَّوَاحُ عَلَى الْغُدُوِّ، تَأْتِيهِمْ طُرَفُ الْهَدَايَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ الَّتِي كَانُوا يُصَلُّونَ فِيهَا فِي الدُّنْيَا، وَتُسَلِّمُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ». انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ صَاحِبِ الدُّرِّ الْمَنْثُورِ وَالْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا: وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبَيَانِ لِمَعْنَى الْآيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التَّذْكِرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَالَ الْعُلَمَاءُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ، وَإِنَّمَا هُمْ فِي نُورٍ أَبَدًا، إِنَّمَا يَعْرِفُونَ مِقْدَارَ اللَّيْلِ مِنَ النَّهَارِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ، وَإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ، وَيَعْرِفُونَ مِقْدَارَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ، وَفَتْحِ الْأَبْوَابِ، ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ وَالْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا. انْتَهَى مِنْهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ الْأَخِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْحَسَنِ وَأَبِي قِلَابَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعٌ إِلَى الْجَوَابِ الْأَوَّلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى./ 50

.تفسير الآية رقم (63):

{تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: {تِلْكَ} [19/ 63]، إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} الْآيَةَ، وَقَدْ بَيَّنَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يُورِثُ الْمُتَّقِينَ مِنْ عِبَادِهِ جَنَّتَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ- إِلَى قَوْلِهِ- أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [23/ 1- 11]، وَقَوْلِهِ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الْآيَاتِ} [3/ 133]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} الْآيَةَ [39/ 71]، وَقَوْلِهِ: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [7/ 43]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ: الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ فِيهَا فِي أَكْمَلِ نَعِيمٍ وَسُرُورٍ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: نُورِثُ أَيْ: نُبْقِي عَلَيْهِ الْجَنَّةَ كَمَا نُبْقِي عَلَى الْوَارِثِ مَالَ الْمَوْرُوثِ، وَلِأَنَّ الْأَتْقِيَاءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَثَمَرَتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ، فَإِذَا أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كَمَا يُورِثُ الْوَارِثُ الْمَالَ مِنَ الْمُتَوَفَّى، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ لِكُلِّ نَفْسٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، فَإِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ؛ أَرَاهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِي النَّارِ لَوْ كَفَرُوا وَعَصَوُا اللَّهَ لِيَزْدَادَ سُرُورُهُمْ وَغِبْطَتُهُمْ؛ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} الْآيَةَ [7/ 43]، وَكَذَلِكَ يَرَى أَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ لَوْ آمَنُوا وَاتَّقَوُا اللَّهَ لِتَزْدَادَ نَدَامَتُهُمْ وَحَسْرَتُهُمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ:
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ مَنَازِلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي النَّارِ لِأَهْلِ النَّارِ، وَمَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فِي الْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى الْإِيرَاثِ الْمَذْكُورِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: قَدْ جَاءَ حَدِيثٌ يَدُلُّ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلًا فِي النَّارِ، إِلَّا أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَوَابٍ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَرِثُونَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمُ الْمُعَدَّةَ لَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ، كَمَا قَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [7/ 43]، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَنَازِلَ أَهْلِ النَّارِ فَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ إِلَّا مَا أُورِثُوا مِنْ مَنَازِلِ أَهْلِ النَّارِ وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَمَا تَرَى، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ هُوَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «كُلُّ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ، هَدَانِي فَيَكُونُ لَهُ أَشْكْرَ، وَكُلُّ أَهْلِ النَّارِ يَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي، فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَسْرَةً» اهـ، وَعَلَّمَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ عَلَامَةَ الصِّحَّةِ، وَقَالَ شَارِحُهُ الْمُنَاوِيُّ: قَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وَقَالَ الْهَيْثَمِيُّ رِجَالُ أَحْمَدَ رِجَالُ الصَّحِيحِ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (66):

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَجَدَ عِظَامًا بَالِيَةً فَفَتَّتَهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: زَعَمَ مُحَمَّدٌ أَنَّا نُبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَذَكَرَهُ الْوَاحِدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ، وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَصْحَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فَقَدْ أَسْنَدَ تَعَالَى هَذَا الْقَوْلَ لِجِنْسِ الْإِنْسَانِ وَهُوَ صَادِرٌ مِنْ بَعْضِ أَفْرَادِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ الْعَرَبِيَّةِ إِسْنَادَ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْمُوعِ، مَعَ أَنَّ فَاعِلَهُ بَعْضُهُمْ لَا جَمِيعُهُمْ، وَمِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي ذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: {فَإِنْ قَتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [2/ 191]، مِنَ الْقَتْلِ فِي الْفِعْلَيْنِ، أَيْ: فَإِنْ قَتَلُوا بَعْضَكُمْ فَلْيَقْتُلْهُمْ بَعْضُكُمُ الْآخَرُ، كَمَا تَقَدَّمَ مِرَارًا، وَمِنْ أَظْهَرِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
فَسَيْفُ بَنِي عَبْسٍ وَقَدْ ضَرَبُوا بِهِ نَبَا ** بِيَدَيْ وَرْقَاءَ عَنْ رَأْسِ خَالِدِ

فَقَدْ أَسْنَدَ الضَّرْبَ إِلَى بَنِي عَبْسٍ، مَعَ أَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الضَّارِبَ الَّذِي بِيَدِهِ السَّيْفُ هُوَ وَرْقَاءُ وَهُوَ ابْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ الْعَبْسِيُّ، وَخَالِدٌ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ الْكِلَابِيُّ، وَقِصَّةُ قَتْلِهِ لِزُهَيْرٍ الْمَذْكُورِ مَشْهُورَةٌ.
وَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ هَذَا الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ يَقُولُ مُنْكِرًا الْبَعْثَ: أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا زَعْمًا مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحْيَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مَقَالَتَهُ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، يَعْنِي: أَيَقُولُ الْإِنْسَانُ مَقَالَتَهُ هَذِهِ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَلَا يَذْكُرُ أَنَّا أَوْجَدْنَاهُ الْإِيجَادَ الْأَوَّلَ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا، بَلْ كَانَ عَدَمًا فَأَوْجَدْنَاهُ، وَإِيجَادُنَا لَهُ الْمَرَّةَ الْأُولَى دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى إِيجَادِهِ بِالْبَعْثِ مَرَّةً أُخْرَى.
وَهَذَا الْبُرْهَانُ الَّذِي أَشَارَ لَهُ هُنَا قَدْ قَدَّمَنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنَّحْلِ وَغَيْرِهِمَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [36/ 78- 79]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [50/ 15]، وَقَوْلِهِ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [56/ 62]، وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الْآيَةَ [30/ 27]، وَقَوْلِهِ: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [17/ 51]، وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} الْآيَةَ [22/ 5]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [21/ 104]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي يَرْوِيهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبِّهِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَذِّبَنِي، وَآذَانِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤْذِيَنِي، أَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي؛ وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ آخِرِهِ، وَأَمَّا أَذَاهُ إِيَّايَ، فَقَوْلُهُ إِنَّ لِي وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»، فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ إِذَا، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ جَزَاءُ الشَّرْطِ؛ وَتَقْدِيرُهُ: أَأُخْرَجُ حَيًّا إِذَا مَا مِتُّ؟ أَيْ: حِينَ يَتَمَكَّنُ فِيَّ الْمَوْتُ وَالْهَلَاكُ أُخْرَجُ حَيًّا، يَعْنِي لَا يُمْكِنُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا تَقُولُ بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِأُخْرَجُ، الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، عَلَى الْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ، مِنْ أَنَّ الْعَامِلَ فِي إِذَا هُوَ جَزَاؤُهَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ لَامَ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ: لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، مَانِعَةٌ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهَا فِيمَا قَبْلَهَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ: الْيَوْمَ لَزَيْدٌ قَائِمٌ؛ تَعْنِي لَزَيْدٌ قَائِمٌ الْيَوْمَ، وَمَا زَعَمَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ الَّذِي هُوَ سَوْفَ مَانِعٌ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ أَيْضًا، حَتَّى إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ: {أَئِذَا مَا مِتُّ سَأُخْرَجُ حَيًّا} بِدُونِ اللَّامِ يَمْتَنِعُ نَصْبُ إِذَا بِأُخْرَجُ الْمَذْكُورَةِ؛ فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ حَرْفَ التَّنْفِيسِ لَا يَمْنَعُ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَدَلِيلُهُ وُجُودُهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ؛ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَلَمَّا رَأَتْهُ أُمُّنَا هَانَ وَجْدُهَا ** وَقَالَتْ أَبُونَا هَكَذَا سَوْفَ يَفْعَلُ

فَقَوْلُهُ هَكَذَا مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ يَفْعَلُ كَمَا أَوْضَحَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ، وَعَلَيْهِ فَعَلَى قِرَاءَةِ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ فَقَوْلُهُ: إِذَا مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: أُخْرَجُ لِعَدَمِ وُجُودِ اللَّامِ فِيهَا وَعَدَمِ مَنْعِ حَرْفِ التَّنْفِيسِ مِنْ عَمَلِ مَا بَعْدَهُ فِيمَا قَبْلَهُ.
تَنْبِيهٌ:
فَإِنْ قُلْتَ: لَامُ الِابْتِدَاءِ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْمُضَارِعِ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، فَكَيْفَ جَامَعَتْ حَرْفَ التَّنْفِيسِ الدَّالَّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّامَ هُنَا جُرِّدَتْ مِنْ مَعْنَى الْحَالِ، وَأُخْلِصَتْ لِمَعْنَى التَّوْكِيدِ فَقَطْ، وَلِذَلِكَ جَامَعَتْ حَرْفَ الِاسْتِقْبَالِ كَمَا بَيَّنَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَتَعَقَّبَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ بِأَنَّ مِنْ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَمْنَعُ أَنَّ اللَّامَ الْمَذْكُورَةَ تُعْطِي مَعْنَى الْحَالِ، وَعَلَى قَوْلِهِ يَسْقُطُ الْإِشْكَالُ مِنْ أَصْلِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (68):

{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} لَمَّا أَقَامَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا الْبُرْهَانَ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [19/ 67]، أَقْسَمَ جَلَّ وَعَلَا بِنَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّهُ يَحْشُرُهُمْ- أَيِ: الْكَافِرِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ- وَغَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ، وَيَحْشُرُ مَعَهُمُ الشَّيَاطِينُ الَّذِينَ كَانُوا يُضِلُّونَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ يُحْضِرُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، أَمَّا حَشْرُهُ لَهُمْ وَلِشَيَاطِينِهِمْ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [37/ 22- 23]،
عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلِهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [43/ 38].
وَأَمَّا إِحْضَارُهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا، فَقَدْ أَشَارَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [45/ 28]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جِثِيًّا، جَمْعُ جَاثٍ، وَالْجَاثِي: اسْمُ فَاعِلِ: جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وَجَثَى يَجْثِي جِثِيًّا: إِذَا جَلَسَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ أَوْ قَامَ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ، وَالْعَادَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ: أَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا فِي مَوْقِفِ ضَنْكٍ وَأَمْرٍ شَدِيدٍ، جَثَوْا عَلَى رُكَبِهِمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
فَمَنْ لِلْحُمَاةِ وَمَنْ لِلْكُمَاةِ إِذَا مَا الْكُمَاةُ جَثَوْا لِلرُّكَبْ إِذَا قِيلَ مَاتَ أَبُو مَالِكٍ فَتَى الْمُكْرَمَاتِ قَرِيعُ الْعَرَبْ وَكَوْنُ مَعْنَى قَوْلِهِ: جِثِيًّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِهِ: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} الْآيَةَ [45/ 28]، أَنَّهُ جِثِيُّهُمْ عَلَى رُكَبِهِمْ هُوَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَهُوَ الْإِطْلَاقُ الْمَشْهُورُ فِي اللُّغَةِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
هُمْ تَرَكُوا سَرَاتَهُمْ جِثِيًّا ** وَهُمْ دُونَ السَّرَاةِ مُقَرَّنِينَا

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: جِثِيًّا، أَنَّ مَعْنَاهُ: جَمَاعَاتٍ، وَعَنْ مُقَاتِلٍ جِثِيًّا، أَيْ: جَمْعًا جَمْعًا، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمْعُ جُثْوَةٍ مُثَلَّثَةُ الْجِيمِ، وَهِيَ الْحِجَارَةُ الْمَجْمُوعَةُ وَالتُّرَابُ الْمَجْمُوعُ، فَأَهْلُ الْخَمْرِ يَحْضُرُونَ حَوْلَ جَهَنَّمَ عَلَى حِدَةٍ، وَأَهْلُ الزِّنَى عَلَى حِدَةٍ؛ وَأَهْلُ السَّرِقَةِ عَلَى حِدَةٍ.؛ وَهَكَذَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ الْعَبْدِ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرَابٍ عَلَيْهِمَا ** صَفَائِحُ صُمٌّ مِنْ صَفِيحٍ مُنَضَّدِ

هَكَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَكِنَّهُ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ فُعْلَةً كَجُثْوَةٍ، لَمْ يُعْهَدْ جَمْعُهَا عَلَى فُعُولٍ كَجُثِيٍّ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ جِثِيًّا بِكَسْرِ الْجِيمِ إِتْبَاعًا لِلْكَسْرَةِ بَعْدَهُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: {جُثِيًّا} بِضَمِّ الْجِيمِ عَلَى الْأَصْلِ.